بقلم براهمي محمد الصالح
أثار ملف صناعة المركبات في الجزائر الكثير من الحبر لسنوات طويلة، فتراوح الملف بين استيراد مقنع، أو ما عرف سابقا “مصانع نفخ العجلات”، إلى توقف تام، امتد لسنوات طويلة، وكانت نتييجته ارتفاع غير مسبوق في أسعار السيارات، وهو ما حرّك التنسيقية الوطنية لمنظمات أرباب العمل، والتي قدمت توصيات بخصوص حلحلة الملف.
في هذا التقرير نعود لتاريخ صناعة السيارات في العالم وتطورها، ثم الوضع في الجزائر وتوصيات تنسيقية منظمات أرباب العمل، والتي اعلنت عنها خلال ندوة صحفية خاصة الإثنين المنصرم.
نشأة صناعة المركبات
تعد السيارات أكثر وسائل النقل شعبية في جميع أنحاء العالم، وفرضت ثورة النقل في القرن العشرين. السيارة باعتبارها وسيلة النقل الرئيسية في المدن الكبرى في البلدان المتقدمة.
بلغ إنتاج السيارات في العالم رقما قياسيا سنة 2017 بتصنيع أكثر من 97 مليون وحدةوفق المنظمة الدولية لمصنعي السيارات، بعد تسجيلها لانخفاض حاد في عام 2009 متأثرا بالأزمة العالمية لعام 2008، ليبلغ الإنتاج حوالي 62 مليون وحدة .
ومنذ عام 2011، فرضت أسيا نفسها كأول كفارة رائدة في إنتاج السيارات.
تطور صناعة السيارات عبر العالم
تحول قطاع صناعة السيارات بشكل عام إلى حد كبير عبر مسارات تطوره ليتخذ في النهاية تنظيم وشكل معين خاص به. وبالتالي، تبنى مصنعو السيارات على مر السنين نفس نموذج التنظيم واللوجستيك والإنتاج والتسويق بهدف زيادة المرونة والقدرة التنافسية.
على هذا النحو، نفذت الشركات المصنعة المختلفة في جميع أنحاء العالم، خلال العقود الثلاثة الماضية، عمليات إعادة هيكلة عميقة بأشكال متعددة (الاستعانة بمصادر خارجية لعدة أجزاء من الإنتاج، النقل، والشركات الفرعية، ونقل مقرات الانتاج وما إلى ذلك) للاحتفاظ فقط بتجميع الأجزاء والبحث والتطوير وكذلك إنتاج أجزاء أساسية معينة من السيارة أو التقنيات المحمية (المحركات، علب السرعة، أجهزة الكمبيوتر والتحكم والضبط، إلخ).
وهكذا أعلنت هذه الشركات نهاية ما يسمى بالتركيز “العمودي الرأسي” الذي مير مصانع الثمانينيات، حيث تم إنتاج جميع السيارات تقريبا وتم توظيف ما يقرب من 40,000 موظف لكل مصنع . يوفر اتحاد صناعات المعدات للمركبات (FIEV) ، مثلا في فرنسا وحدها، الاستعانة بمصادر خارجية لإنتاج المعدات بقيمة 75% من سعر السيارة، وهو الحل الذي قلل من متوسط معدل الادماج لكل مصنع إلى ما يقرب من 25%.
وبالتالي، فإن معدلات الإدماج للعلامتين التجاريتين الفرنسيتين تبلغ حوالي 20%. وقد انتقلت العلامة التجارية الألمانية من أكثر من 60% في عام 1967 إلى ما يزيد قليلا عن 20٪ خلال العقدين الماضيين وهذا يعني استحداث نظام بيئي حول مواقع الإنتاج بالإضافة إلى شبكة عالمية من المناولين والموردين المعتمدين الذين يتطورون حول إستراتيجية تنفذها كل شركة لتصنيع سيارات .. في هذا السياق، اشتركت العديد من البلدان في نموذج الإنتاج هذا وفقا للمزايا المقارنة التي يوفرها كل بلد (تكلفة اليد العاملة، المؤهلات الفنية، وتكلفة الطاقة، والمزايا الضريبية وشبه الضريبية المقدمة، والموقع الجغرافي، وما إلى ذلك).
صناعة المركبات في الجزائر
ضمت الحظيرة الجزائرية للسيارات في النصف الأول من عام 2019، أكثر من 6.5 مليون مركبة مسجلة مع نمو سنوي يتراوح بين 150 ألف و300 ألف سيارة سنويا (مقارنة بـ 39.5 مليون سيارة في فرنسا). ولكن عانى قطاع السيارات خلال السنوات العشر الماضية من عدم الاستقرار القانوني الناجم بشكل رئيسي عن تغيرات وخيارات إستراتيجية متكررة، بدء من التحرير المفتوح على مصراعيه لواردات السيارات الجديدة متبوعا بإعادة تنظيم السوق من خلال التخصص والعلامات التجارية المحدودة لمتعامل ومورد واحد، لينتهي الأمر مع التوجه الصناعي الذي تطور على عدة مراحل.
شروط النجاح :
ومع ذلك، فإن تنفيذ سياسة التصنيع وبروز قطاع ميكانيكي، يتطلب من جهة (1) معرفة ودراية كاملة ودقيقة بسوق السيارات العالمي والإقليمي، لأن أي صناعة حقيقية في قطاع السيارات تعتمد حصرنا على السوق المحلية لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون مفيدة للاقتصاد الوطني ولا مريحة للمتعاملين الاقتصاديين الناشطين في هذا القطاع. ه من ناحية أخرى (2) التحكم وفهم الاستراتيجيات التي وضعتها كل شركة لتصنيع السيارات من أجل التمكن من التوافق مع سياستها وفقا للمزايا النسبية المقارنة التي يمكن أن تقدمها بلادنا من حيث القدرة التنافسية وتكاليف الإنتاج واليد العاملة المؤهلة والموقع الجغرافي
الحالة الجزائرية:
من المفارقات، وحتى عام 2017، كانت جميع المتطلبات والشروط للوصول إلى نشاط تجميع السيارات في الجزائر تتطلب من الشريك الأجنبي الامتثال لدفتر شروط وفقا لمعايير لا تلبي بالضرورة توقعاتهم، مما قلل هذا النشاط إلى عملية تجميع بسيطة مخصصة للسوق المحلي .
اعتبارا من عام 2017، أدرجت الجزائر في دفتر الشروط معايير وشروط جديدة، مثل معيار التصدير في حساب معدل الإدماج الذي يتعين على المتعاملين الاقتصاديين تحقيقه، فضلاً عن مشاركة الشريك الأجنبي في رأس مال الشركة .
كان مستبعدا جد الحصول على نقل محتمل للتكنولوجيا من خلال تلك التدابير، ولكن الهدف الحقيقي كان الحصول على التزام “قانوني” من الشريك الأجنبي للموافقة على اعتماد وترخيص لعدد معين من المناولين حتى يتمكن من إمداد شركاته الفرعية الأخرى بقطع غيار منتجة محليا .
وبالتالي، فإن الالتزام بتضمين شركات تصنيع السيارات الجزائرية في شبكات التسويق العالمية الخاصة بها قد مكن بعضها على وجه التحديد الاستفادة من السوق، حصرنا، في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لأنواع من السيارات أنتجت في الجزائر.
وهنا يجب الإشارة إلى أن القطاع الميكانيكي يشكل، في جميع دول العالم، ركيزة اقتصادية مهمة بالنظر إلى تأثيره المضاعف على القطاعات الأخرى، مثل: الزراعة من خلال الآلات الزراعية والأشغال العمومية والبناء من خلال آلات الأشغال العمومية والنقل وما إلى ذلك. علاوة على ذلك، فهو قطاع يعتمد إلى حد كبير على الواردات؛ وهذا هو السبب في أنه، في أوقات الأزمات، هو أول قطاع يتأثر بالقيود والقيود على الاستيراد من خلال آليات مختلفة . فدولة مصر على سبيل المثال، أقرت رسوم جمركية بنسبة 134% للحد من اللجوء المفرط إلى احتياطيات العملة الصعبة لهذا القطاع .
يمثل سوق السيارات في الجزائر ما معدله 250 ألف سيارة جديدة في السنة، ويقدر حالياً بأكثر من 350.000 سيارة / سنة على مدى ثلاث سنوات فقط لتحقيق توازن السوق المحلي.
بمعنى آخر، ستكون هناك حاجة، وفق تقديرات الخبراء، إلى مليون سيارة لتحقيق هذا الهدف، أي أكثر من 10 مليار دولار (محسوبة على أساس أقل قيمة للسيارة وهي 10000 دولار أمريكي / سيارة (يضاف إلى هذه الفاتورة، فاتورة استهلاك الوقود بحوالي 13 مليار دولار (محسوبة على أساس متوسط استهلاك الوقود السنوي بين 2000 و 3000 لتر).
وهذا دون الأخذ بعين الاعتبار قطع الغيار التي يجب علينا أن ندرك ضرورة زيادة الكميات وهذا بما يتناسب مع قدم الحظيرة الوطنية للسيارات، ويضاف اليها تكلفة الشحن الذي يشهد زيادة هائلة من حيث التكاليف مستكون الفاتورة وفقا لأقل التقديرات تفائلا أكثر من 15 مليار دولار
قدرات المناولة الوطنية
تعد تجربة الشركة العمومية” SITEL “بالشراكة مع ERICSSON في إطار مجموع Elec Eldjzair group التابعة لوزارة الصناعة أفضل مثال على ذلك.
بعيدا عن الشك في التأثير التجاري الذي يمكن أن تحدثه هذه الموافقة، أنشأت شركة SITEL استثمارا لتلبية احتياجات رونو الجزائر فقط بعد التحقق من الموافقة” التصديق على المنتوج واعتماده”.
تلقت منتجات” SITEL ” المتمثلة في أحزمة الكابلات الكهربائية العديد من الطلبات من قبل العديد من المصانع حول العالم (روسيا وأوكرانيا وتركيا والمغرب).
لم تتمكن SITEL من الاستجابة لهذه الطلبات بسبب نقص الاستثمار (باستثناء عدد قليل من العمليات بكميات صغيرة نيابة عن بيجو المغرب أو رونو روسيا وأوكرانيا)، بعدها دخلت الشركات العمومية والخاصة الأخرى عمار خوض تجربة جديدة في بيئة المناولة
الإستراتيجية المعتمدة :
كان الإدماج في صميم السياسة الصناعية الوطنية وأصبح الهدف المطلوب تحقيقه. من الناحية النظرية. يمكن لهذا المحور أن يعزز الصناعة.
ومع ذلك، وبالنظر إلى خصوصية صناعة السيارات، التي تشهد زيادة كبيرة في الاستعانة بمصادر خارجية، فإن التركيز على معدلات ونسب الإدماج العالية يبدو غير منطقي، بالإضافة إلى ذلك، يجب على بلدنا، مثل أي دولة تسعى للاستثمار الأجنبي المباشر والتصنيع، أن تطور سياستها الصناعية وفقا لاستراتيجيات المجموعات الصناعية الكبرى وخططها التوسعية.
على هذا النحو، تتمتع الجزائر بمزايا مقارنة كبيرة، لا سيما تكاليف الطاقة واليد العاملة والبنية التحتية القائمة والتي تزداد توسعا وتنوعا وجودة. يمكن لبلدنا، الذي يخضع حاليا لأحكام الاتفاقيات المتعددة الأطراف المختلفة، أن يغير الأمور بشكل صحيح ويستفيد منها .
وتشكل الزيادة في التكاليف اللوجستية / الشحن ومشاكل العرض الناجمة عن وباء كوفيد – 19 والأزمات المختلفة فرصا إضافية لبلدنا، والتي يمكن أن تستفيد من المواقع الصناعية المشتركة، لا سيما مع صدور القانون المتعلق بالاستثمار قريبا.
ومع ذلك، فإن تغيير المسار ضروري للتركيز على الميزان التجاري بدلاً من معدل الإدماج.
توصيات التنسيقية الوطنية لمنظمات أرباب العمل
تتمثل الفكرة العامة لهذه المقاربة التي سيتم تطويرها على ثلاث مراحل، عبر توظيف فوائض العملات الأجنيبة التي من المحتمل أن يتم جنيها من خلال عمليات تصدير محددة جيدا لتمويل استيراد السيارات المخصصة للسوق المحلية. تعتمد المراحل الموصى بها لتنفيذ هذه المقاربة على استغلال المزايا المقارنة المتاحة لبلدنا على المستوى الإقليمي (لا سيما من خلال الاستفادة من الاتفاقيات متعددة الأطراف الاتفاقيات مع الاتحاد الأوروبي و GZALE و (ZLEAF وكذلك على الاستثمارات التي تم انجازها أو تلك التي ستنجز.
المرحلة الأولى (قصيرة المدى)
من خلال تصدير المركبات المجمعة في الجزائر عن طريق تنفيذ طلبيات الموجهة للمصنعين العالميين) بموجب النظام الجمركي للمعالجة الداخلية.
يتمثل في اللجوء إلى التركيب المحلي للسيارات المركبات الموجهة للتصدير مع تغيير وضع التعريفة الجمركية القادر على السماح المنتوج المركب محليا ان يكون علامة جزائرية والاستفادة من أحكام وتدابير الاتفاقيات الثنائية والجماعية .
يمكن استخدام الأرباح المحققة بالعملة الأجنبية من قبل المجمع الوطني ومورده لتزويد السوق المحلي. وبالتالي، يتم تجديد الحظيرة الوطنية للسيارات المركبات تدريجياً دون التأثير على احتياطاتنا الوطنية من العملة الصعبة مع تثمين البنى التحتية القائمة واستغلال اليد العاملة المدربة بالفعل.
تعهد الموردون بتزويد مجمعيهم بمجموعة من أجزاء المركبات، مما يسمح لهم ببيعها في الأسواق الدولية المحيطة وتزويدهم بالمركبات للسوق المحلي بما يتناسب مع الأرباح المحققة.
المرحلة الثانية (متوسط المدى):
الموافقة” المصادقة” على عدد محدد مسبقا من قطع الغيار من قبل المجمعات الصناعية للمركبات لفائدة المصنعين الوطنين مؤسسات المناولة، في مجال الصناعة الميكانيكية، مما سيجعل هذا القطاع مصدرا . إنها مسألة الانتقال من فكرة إحلال الواردات (السوق المقيدة) إلى تنمية الصادرات (اقتصاد الحجم وبالتالي القدرة التنافسية (تتمتع الجزائر بقاعدة صناعية أكبر بكثير وأكثر قدرة على المنافسة ولكن قبل كل شيء أكثر تنوعا من القاعدة الصناعية من بعض البلدان النشطة في مجال الصناعة الميكانيككية.
في الواقع، يمكن للعديد من المتدخلين المتعاملين الاقتصاديين تطوير القطاع بشكل صحيح من خلال الشركات والاستثمارات الموجودة بالفعل، والعديد من المنتجات في مجال السيارات المعدة للتصدير، مثل صناعة الكابلات وأحزمة الكابلات والإطارات، والزجاج
المرحلة الثالثة (طويلة المدى):
بالإضافة إلى الأسلاك الكهربائية وأسلاك الكابلات التي تتمتع فيها بميزة نسبية هائلة (منذ اللحظة التي تمكنا فيها من تصدير منتجاتنا) تتمتع الجزائر بإمكانيات هائلة من خلال الاستثمارات التي تم إجراؤها بالفعل أو قيد التنفيذ ولكنها تتطلب الحد الأدنى من التطوير ، مثل: ختم الصفائح المعدنية، المسبوكات المختلفة، قطع الغيار الإلكترونية للسيارات، قطع غيار الكهربائية للسيارات (البطاريات والمصابيح التي لا تحتاج إلى صيانة وما إلى ذلك) وكذلك قطع بلاستيكية متنوعة.
سيضمن هذا الاقتراح، وفق ما أوردته التنسيقية، لقطاع المركبات والصناعة الميكانيكية، الذي يستحق الدراسة فعلا، الاكتفاء الذاتي من العملة الصعية على المدى القصير وفائض تصدير على المدى الطويل مع توحيد جهود المتعاملين الاقتصاديين في قطاع الصناعة الميكانيكية حول نفس الأهداف التي حددتها الدولة خاصة الحفاظ على احتياطيات النقد بالعملة الصعبة وتعزيزها وكذلك تطوير النسيج الصناعي
ويبقى تحرير ورفع القيود عن المشاريع المجمدة ومختلف النشاطات التي تم اطلاقها في مجال صناعة المركبات/ الصناعة الميكانيكية, خصوصا المناولة، نقطة جوهرية ستسمح لنا بربح الوقت وكذا جني موارد جديدة بالعملة الصعبة.
فعلاوة على الأسلاك الكهربائية وأسلاك الكابلات التي تملك الجزائر مزايا مقارنة هامة، فيلادنا تتمتع كذلك تملك قدرات كبيرة من خلال الاستثمارات التي تم انجازها أو تلك التي هي في طور الانجاز، ويبقى فقط القليل من المتابعة والتناسق
إن المقاربة التي تقترحها ستسمح، وفق تقديرات، بـعدم المساس بالاحتياط الوطني من العملة الصعبة، دعم المكانة الصناعية للجزائر عبر السماح لها بأن تتحول إلى قاعدة لوجيستية، تثمين المصانع والاستثمارات التي تم انجازها، توظيف الرأس المال البشري الذي تم تكوينه سابقا، وكذلك السماح وتمكين المواطن الجزائري من امتلاك سيارة وبأسعار مقبولة ومعقولة ومواصلة تجديد الحظيرة الوطنية للسيارات من أجل سلامة مرورية أحسن للسائقين
رابط دائم: https://mosta.cc/p6ffv