«الحلقة 03»
أ.د. براهمي زرزور – جامعة العربي التبسي-تبسة
شهد العالم خلال العشرية الأخيرة من القرن الماضي، سلسلة من التحديات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في ظل الأوضاع الاقتصادية الجديدة، وخاصة بظهور التكتلات الاقتصادية واشتداد المنافسة والأدوار الجديدة للمنظمات العالمية. كما ظهرت في هذه الفترة ثورة تكنولوجية سريعة تمثلت أساسا في التطور السريع في عالم الاتصالات، والمواصلات، والمعلومات واتساع مجالاتها، إضافة إلى ما ترتب عن ذلك من سرعة فائقة في جمع المعلومات وانتقالها السريع بين أبعد نقطتين في العالم، مما ساهم في تحقيق “عالمية السوق”، بحيث لم يعد هناك سوق وطنية أو إقليمية، كل هذا الواقع استوجب الاهتمام بضرورة التسويق بصفة عامة والتسويق لإمكانات ومقدرات التنمية المحلية بصفة خاصة.
وفي ظل تراجع الوظيفة التنموية للدولة في إطار ما يعرف بدولة التخلي أو دولة الحد الأدنى، مقابل تنامي دور الجماعات المحلية، لدرجة جعلت بعض الباحثين يقول بأنه إذا كان القرن العشرين عرف قوة وهيمنة الدولة، فإن القرن الحادي والعشرين سيعرف تعاظم دور الجماعات المحلية. ومن خلال هذا التطور والتقدم المستمر، وبالأخص في الوسائل التكنولوجية، أصبحت الميزة التنافسية تقاس بمدى القدرة على الإبداع والابتكار والتجديد الذي يتماشى في نفس الوقت مع متطلبات عولمة الأسواق.
أصبحت القاعدة الوحيدة في النمو والتطور هي المنافسة، بتنوع إستراتيجيتها ومداخلها وأساليبها، في بيئة تزداد فيها الشركات بشكل لم يسبق له مثيل، فالأسواق تتحول، والتكنولوجيا تتطور، والعمليات تتغير بسرعة، وبذلك فالعالم اليوم يعيش عصر المعرفة “Knowlge age“، وقد كان من أخطر آثار العصر الجديد بروز التنافسية كحقيقة تحدد نجاح أو فشل منظمات الأعمال بدرجة غير مسبوقة. وبذلك، فإن ملامح وآليات ومعايير هذا العصر تختلف جذريا عن كل ما سبق، وتفرض على كل من يعاصره الأخذ بالمفاهيم والآليات الجديدة والمتجددة، من هنا أصبحت المنظمات في موقف يحتم عليها العمل الجاد والمستمر لاكتساب المبررات التنافسية، ولهذا أصبح التسويق عنصرا استراتيجيا لرفع تحدي التنافسية.
ولقد تطور مفهوم التسويق في القطاع التجاري لحل مجموعة من الإشكاليات التي طرحها ترويج سلع وبضائع المقاولات داخل الأسواق، فالتسويق لا يختص بتدفق السلع والخدمات. فالتوجه به عالميا نحو الخدمات يسير على نحو سريع ويفوق التوجهات نحو تدفق السلع المادية، فقد توسعت مجالات الخدمات عالميا، فهو يهم الأنشطة المنجزة من قبل الأفراد والمنظمات، التي قد تسعى أو لا تسعى إلى تحقيق الأرباح، والتي من خلالها تقدم التسهيلات وتشجع التبادل لإشباع كلا الطرفين.
في هذا الإطار، تعد الدراسة التسويقية أحد الاتجاهات الحديثة في الفكر الإداري، ذلك أن التسويق يهتم بإشباع الرغبات والحاجات الإنسانية، فهو “تلك العملية التي يتم من خلالها خلق تبادل للسلع بين المنتج والمستهلك لتحقيق التنمية الاقتصادية”، فالمفهوم التسويقي يكمن في فلسفة الإدارة التي تدرك كيفية إشباع الحاجات والرغبات، من خلال تنظيم الأنشطة، والتي يمكن من خلالها أيضا تحقيق أهدافها، ولهذا فإن المفهوم التسويقي يتأثر بالبيئة الخارجية التي تضم العديد من المتغيرات والمؤشرات، سواء الاقتصادية أو القانونية، والتكنولوجية، الأمر الذي يتطلب ضرورة التفاعل والاستجابة المطلوبة لذلك.
تأسيسا على ما سبق، فالتسويق هو خلق ديناميكية للسوق سواء على الصعيد المحلي، أو الوطني وحتى الدولي، ولهذا الاعتبار، فقد أصبح التسويق بدوره من الأدوات والآليات التي عرفت طريقها من القطاع الخاص إلى القطاع العام وتحديدا في الجماعات المحلية. وبهذا أصبح التسويق لمقدرات التنمية محليا عنصرا محددا لإدارة الشأن المحلي، وأحد مداخل التميز والابتكار.
إن منطق العولمة وما يحيل إليه من إكراهات وتحديات أبرزها المنافسة، والتي لم تقتصر على المقاولات الخاصة، بل امتدت إلى الجهات والجماعات المحلية حضرية كانت أم قروية. هذا الواقع فرض تجاوز الطرق التقليدية لإدارة الجماعة المحلية، وقد ساهمت التكنولوجيا الحديثة للاتصال والتواصل إلى حد كبير في ذلك، ومن أجل الرفع من إنتاجية الإقليم(الجماعة المحلية).
فالتسويق لمقدرات التنمية المحلية(موارد اقتصادية، اجتماعية، جغرافية، تنظيمية،….) يطال الذكاء الإقليمي للجماعات المحلية، بحيث تستعمله كأداة للتحليل العملي من أجل إدارة جيدة وتحسين عرض مقدرات مجالها الحيوي اقتصاديا كان أم اجتماعيا أم تنظيميا..، وهو أيضا آلية للإعلام الجغرافي، فيدخل إذن ضمن إستراتيجية التنمية المحلية، ويتعلق الأمر بالتموقع الفعال للمجال المحلي داخل السوقين الوطني والدولي لهدف جذب الاستثمارات الصناعية والسياحية والتجارية. فمصطلحات مثل التسويق الإقليمي، الذكاء الإقليمي، الذكاء الاقتصادي، كلمات مفاتيح، تشكل حلقات مترابطة في إدارة الجماعة المحلية المقاولاتية، وهي بمثابة الإجابة عن تساؤلات التنمية المحلية في ظل الاكراهات وعوائق المنافسة من جهة، وأداة لجلب ثقافة جديدة لإدارة الشأن العمومي من جهة أخرى.
وفي إطار آخر، يستطيع التسويق الإقليمي المساهمة في تثبيت دعائم الحوكمة المحلية من عدة مستويات منها: تنمية الديمقراطية المحلية، خلق ثروات، إعطاء قيمة مضافة للإقليم المحلي، الرفع من قيمة وفعالية الاتصال والتواصل داخل الإقليم من جهة، ومن جهة أخرى فهو عنصر محدد في الإدارة المحلية العصرية، لأنه يمكن من تحديد شروط الشراكة مع مختلف الفاعلين، كما أنه يسمح بفتح حوار ونقاش داخلي على مستوى الجماعات المحلية، وكيفية تحسين العلاقات مع المواطنين. فالتسويق يعتبر وسيلة للتمفصل بين الجماعات المحلية وفواعلها(مكونات المجتمع المدني) وشركائها(مستثمرين، تجار، حرفيين، شركات،..) لأجل المساهمة في التنمية والرفع من قيمة وجاذبية الإقليم المحلي.
فبفضل التسويق الإقليمي تتحسن إمكانية التواصل داخل المجال المحلي، ويمكن من تحقيق هدفين موضوعيين، هدف خارجي -اقتصادي- يركز على تنمية الجهة بجذب المستثمرين، وهدف داخلي- سياسي- يفسر ويشرعن لعمل المجالس المحلية المنتخبة. فقد تم تطوير الطريقة التقليدية للتسويق التي كانت تركز على تعريف البنية التحتية، النقل، تخفيف الضرائب..، إلى طريقة تقوم على فن تقديم تموضع الجماعات المحلية بمختلف مكوناتها، وتفاعلها مع العوامل المؤثرة في التراب، بتوظيف مفهوم الانتماء لهدف: الرفع من جاذبية الاستثمار؛ خلق ديناميكية بين الفاعلين؛ تعزيز هوية المجال الإقليمي؛ تنمية شبكة التعاون.
إذن، فمن المهم معرفة أن التسويق الإقليمي يقدم للجماعات المحلية فرصة ملائمة لتوجيه حاجيات المواطن/ الزبون، ووضعية المنتجات والتجهيزات وبالتالي المساهمة في تحقيق التوازن للاقتصاد المحلي. فمفهوم التسويق الإقليمي لإمكانات ومقدرات الجماعة المحلية يتقاطع مع مفهوم الجماعة المحلية المقاولة من خلال، أولا: التشخيص الحقيقي لواقع الإقليم المحلي ومعرفة حاجيات وانتظارات المواطن الزبون، كما يجب عليها ثانيا: وضع الآليات التي تضمن مشاركة فعالة للمجموعة المحلية، وثالثا: اعتماد سياسة تقريب الإقليم (وضع رقم أخضر أو موقع الكتروني،..) يسمح بتطوير سياسة القرب، كدعامة للحوكمة المحلية.
وتأسيسا على ذلك، فعلى الجماعات المحلية من الآن فصاعدا إعطاء صورة تتسم بجودة إقليمها، بحيث أن كل جماعة محلية حضرية كانت أو قروية أو جهة لها خصوصياتها الثقافية والجغرافية ومؤهلاتها البشرية والاقتصادية، تجعلها تبرز كقطب إما سياحي، أو فلاحي، أو صناعي..، كما هو الحال في عدد كبير من مدن بلدنا التي تزخر بمقومات ومقدرات متنوعة.
لا شك أن سياسة إدارة المجال الإقليمي المحلي أصبحت قائمة على مبدأ التنافسية الإقليمية، أي أن كل جماعة أو جهة معينة تحاول استعراض ما لديها من مقومات ومؤهلات لجلب الرساميل الوطنية والعالمية، وبالتالي البحث عن آليات جديدة لإنعاش الاقتصاد المحلي. فالجماعة المقاولة تعطي قيمة مضافة لإقليمها المحلي، عن طريق التسويق الإقليمي الذي أصبحت الحاجة إليه ملحة كأداة لتنشيط الاقتصاد المحلي .
رابط دائم: https://mosta.cc/81d07