بقلم الدكتور فلاق محمد
يمكن أن نعتبر أن مفهوم المسؤولية الاجتماعية لدى المؤسسات الاقتصادية في الجزائر يحمل دلالات جديدة لاسيما ما حدث ابان وبعد جائحة كورونا، حيث كان من المعروف سابقا أن المسؤولية الاجتماعية تعني الأعمال الخيرية، والتي تقتصر على مساعدة الفقراء والمساكين فقط. بينما تطور هذا المفهوم الآن وأصبح يشمل عدة مجالات مختلفة اقتصادية وأخلاقية وبيئية.
تندرج أراء بعض مدراء المؤسسات الاقتصادية في الجزائر حيال مفهوم المسؤولية الاجتماعية ضمن منظورين رئيسين: نظرة ترتكز على الأخلاق، ونظرة تعتمد على الأداء. وقبل أن نستفيض في تفصيل المنظورين لابد من توضيح نقطة مهمة وهي أن المنظورين ليسا منفصلين تماما عن بعضهما البعض. ففي مناقشتنا مع عينة من المدراء، تداخلت وجهات النظر فيما بينهم، مما يدل على تعدد الدوافع المنطقية بشأن المسؤولية الاجتماعية حتى داخل المؤسسة نفسها.
وتميل إحدى وجهات النظر السائدة إلى ربط المسؤولية الاجتماعية بحسب الواجب النابع من المعتقد والقيم الإسلامية والحس الأخلاقي بالمسؤولية، مما يشير إلى الجهود التي تبذلها بعض المؤسسات الاقتصادية قيد الدراسة في سبيل إضفاء الطابع المؤسسي الأخلاقي والأدبي على المسؤولية الاجتماعية، فيما تشير هذه الأخيرة إلى الحس الخاص لدى المدراء والملاك بواجبهم ردا الجميل للمجتمع التي تعمل فيه مؤسساتهم.
أما المنظور الثاني فيربط المسؤولية الاجتماعية بطابع التبرعات والأعمال الخيرية، فقد أعرب بعض المدراء عن وجود رابط بين المسؤولية الاجتماعية والهبات ودعم الأعمال الخيرية، وراحوا يعتبرون المسؤولية الاجتماعية أنها ” مجموعة من الأنشطة الخيرية التي تقدمها المؤسسة في المجتمع المحلي”، كما اعتبروها ” مجموعة من الممارسات والمبادرات الخيرية الموسمية بدافع من العلاقات العامة أو لاعتبارات تسويقية”.
أما الثلث الباقي من أفراد عينة الدراسة فوضعوا مفهوم المسؤولية الاجتماعية في إطار من الترابط بين المؤسسات الاقتصادية والمجتمع، فقد عرفوا المسؤولية الاجتماعية بأنها ” مفهوم يهدف إلى تحقيق النجاح التجاري بطريقة لا تعرض رفاهية وأمان العمال أو المجتمع للخطر” وأنها ” مجموعة شاملة من الممارسات والبرامج التي تتكامل استراتيجيا في جميع أنشطة وقرارات المؤسسة للحد من التأثير السلبي على بيئة المؤسسة الاجتماعية والطبيعية”. هذه النظرة تمثل إطارا مهما بالنسبة إلى البعض لمساهمة مؤسساتهم في المسؤولية الاجتماعية بكافة مجالاتها، ولكن تبقى آلية الربط بين المؤسسات الاقتصادية والمجتمع غائبة.
ووِفقا لبعض المقابلات المعمّقة غير الموجّهة مع بعض المدراء وأصحاب المؤسسات الاقتصادية واستقراءا لبعض الممارسات الإدارية والمبادرات، أمكن لنا الخروج بالاستنتاجات التالية:
يؤكّد المدراء وأصحاب المؤسسات الاقتصادية المبحوثة على أهمّية الجانب الاجتماعي في أنشطة مؤسساتهم مثمّنين الإطار التشريعي والمؤسّسي المشجّع على الاضطلاع بمسؤوليات اجتماعية (امتيازات ضريبيّة عن كلّ التبرّعات ذات المنحى الاجتماعي التي تقدّمها المؤسسة، منح تسند من طرف الدولة للمؤسسة المساهمة في جهود التشغيل والإدماج المهني لذوي الحاجيات الخاصة، وحمايـة البيئـــة)، كذلك أبدَوْا إدراكهم بأنّ الضغوطات الاجتماعية و البيئية تزداد حدّة يومًا بعد يوم وأنّه يحسُن بالمؤسسات تبنّي مواقفَ تقوم على فكرة أنّ أهداف المؤسسة لا تتوقّف عند إرضاء ملاكها وموظفيها وعملائها فحسب، بل يجب أن تتصرّف كمواطن مسؤول ومتضامن، بمعنى أن تكون معنيّةً بقضايا البطالة والمشاكل البيئية للجهة التي توجَد بها. كذلك هم يساندون وجود أقسام (مصالح اجتماعية داخل مؤسّساتهم تُعنَى بتطوير الموارد البشرية للمؤسسة وتسهر على الاعتناء بالظروف المهنية والاجتماعية لمختلف مستويات الموظفين من خلال تنمية الحوار الاجتماعي كما تعمل على مدِّ قنوات التواصل مع المحيط الخارجي. كما وجدنا من بينهم من يساند فكرة إعداد تقارير اجتماعية سنويّة إلزامية وهي تقارير تطالب بها المنظمات الدولية الراعية لـ”الاتفاق العالمي”.
لكن ما تجدر الإشارة إليه في هذا السياق هو وجود تبايَنَ في ترتيبُ الأولويّات لدى هؤلاء فيما يتّصل بمسائل حقوق العاملين واحترام المستهلكين وتحسين ظروف العمل وحماية البيئة وتطوير الحوار الاجتماعي. وعمومًا يمكن القول بأنّ الشأن الداخلي للمؤسسة سواء كان اقتصاديّا أو اجتماعيّا هو الهاجس الأكبر لدى المسؤولين في حين تأتي القضايا ذات الصبغة العامّة والخارجية من مثل مقاومة الفقر، والمساهمة في التنمية المحلّية والجهويّة والوطنيّة في مراتب لاحقة.
كما حاولنا تبيّن إلى أي مدًى تجد مبادئ المسؤولية الاجتماعية للمؤسسة تطبيقا لها في السلوك الإداري للمسؤولين (المديرين)، فوجدنا أنّ الدوافع والمبادرات تختلف من مؤسّسة إلى أخرى، فبعض المؤسّسات أظهرت فعلا مواطَنتها من خلال عدّة أنشطة معبّرة عن مسؤوليتها الاجتماعية، وإن كان المجال لا يتّسع لذكر الشهادات الدالّة على الالتزام الاجتماعي لبعض المؤسسات، فيكفي القول إنّها شمِلت مجالات مختلفة: مساعدة الأطفال الأيتام ودور العجزة، المساهمة في بناء منشآت رياضية لاسيما في المناطق النائية وولايات الجنوب، التبرّع للجمعيات للخيرية غير الهادفة للربح، تخصيص نفقات للحدّ من التلوّث والتصرّف في النفايات، المساهمة تأثيث مدارس محو الأمية إلى جانب تقديم جوائز وهدايا لأوائل الطلبة في نهاية السنة الدراسية….إلخ.
إجمالا يمكن القول أن الدراسة مكّنتنا من تبيّن أنّ المؤسّسات الاقتصادية المبحوثة الخاصّة منها والعمومية، هي بصدد تبنّي اتجاهات تتلاءم بإطّراد مع القضايا الاجتماعية والبيئية المطروحة، لكنّ هذه الاتجاهات تبدو مصطدمة بضغوطات مالية وعوائق ثقافية يمكن تجاوزها متى نظر المسؤولون إلى المؤسسة الاقتصادية على اعتبارها مؤسسة اجتماعية، واقتنعوا أنّ السلوك الإداري المسؤول اجتماعيا لا يحرّكه شرط تجاريّ ربحي فحسب، بل تُمليه بالأساس قيم المواطنة.
رابط دائم: https://mosta.cc/zk3x9