بقلم الدكتور براهمي زرزور – جامعة العربي التبسي-تبسة
إزداد الاهتمام بمفهوم اللامركزية منذ أواخر القرن العشرين، نتيجة للإفرازات التي نتجت عن المتغيرات السياسية والاقتصادية والتكنولوجيا التي شهدها العالم، ولم تعد اللامركزية هدفا في حد ذاته، وإنما أصبحت فلسفة وأداة تنموية تمكن البشر من المشاركة في صنع واتخاذ القرارات المتعلقة بتنمية مجتمعاتهم بما يعود عليهم بالفائدة. وفي خضم التحولات الكبرى التي تشهدها بنيات الدولة وتجدد أدوارها، تعالت الدعوة إلى تطوير النظام اللامركزي الذي يستند على الشرعية الإدارية والعقلانية والقانونية، وذلك بتبني منظور جديد ومقاربة مغايرة تتوخى البعد المانجيريالي للشأن العام، وذلك من خلال ترسيخ مفهوم “تقريب الإدارة من المواطن”، ومنهجية “المقاربة التشاركية”.
ولم تخرج الجماعات المحلية بالجزائر عن هذا المنحى، فبعدما سجلت تطورا من الناحية البنيوية، الذي كان يختلف من فترة إلى أخرى تبعا لتوجهات الدولة على مستوى التقسيم الإداري، الذي كانت تتحكم فيه مجموعة من الاعتبارات السياسية، والاقتصادية والاجتماعية. وبالموازاة مع ذلك شهدت وظيفة الجماعات المحلية تطورا ملحوظا أخرجها من البعد السياسي الإداري لتغزو فضاء الاقتصاد، وتصبح الجماعة كمقاولة بامتياز، إذ يعتبر تسيير الشأن المحلي مجالا خصبا يمنح فرصا لتطوير طرق الإدارة التقليدية للشأن العمومي المحلي، فتطبيق “المقاربة المانجيريالية” “Approche managerielle” على هذا المستوى، أصبح ضروريا لتمكين الجماعة المحلية من الآليات الكفيلة بتحقيق دورها التنموي. وتحقيق هذا المطلب يعتمد على الذات، الذي يرتكز على المقاولة، والتي بدونها لا يمكن الحديث عن تراكم اقتصادي أو تكوين رأسمالي، وليست المقاولة الكبرى التي تتجلى في الدولة، ولكن المقاولة بمفهومها الحديث التي تتجلى في مقاولة الجماعات المحلية في إطار البلدية، حيث أن النظريات الاقتصادية الحديثة تأخذ بعين الاعتبار الإطار الاقتصادي المحلي، كعنصر أساسي للتحليل الاقتصادي ولتطبيق المخططات الاقتصادية. ولأجل ذلك، فقد أصبحت الجماعات المحلية المنشط الرئيسي للدورة الاقتصادية على الصعيد المحلي، حيث أن الحاجة أصبحت أكثر إلحاحا في تغيير مقاربة الدولة للجماعات المحلية كوحدات إقليمية إدارية، إلى جماعات اقتصادية تنافسية، تقوم بتنشيط الدورة الاقتصادية المحلية، وكأحد الشركاء الرئيسيين للدولة، في المبادرات الكبرى وإنعاش الاستثمارات وحل المشاكل الاجتماعية. وهكذا، فقد أصبحت الجماعات المحلية كقطب اقتصادي مهم، يساهم في دعم الاقتصاد المحلي، وفاعل أساسي ليس فقط في مجال نفوذها، بل تعدتها إلى المشاركة في المبادرات التنموية الكبرى، التي تهدف إلى تحسين الوضع الاجتماعي للمواطنين سواء عن طريق التدخلات الميدانية أو عن طريق الدعم المالي.
وفي سياق آخر، أضحت التحديات التنافسية التي أفرزتها العولمة، بمثابة المدخل الرئيسي للإصلاح والتغيير على جميع المستويات، ولأجل ذلك أصبحت الجزائر مدعوة لتأهيل وتحديث اقتصادها، فالعولمة بتداعياتها المختلفة، تفرض المرور من الدولة القوية إلى الدولة الاستراتيجية الذكية، وبذلك يمكن القول، بأنه إذا كانت الدولة قوية بمركزيتها فإنها أكثر صلابة بانفتاحها على محيطها الذي تمثله الجماعات المحلية. وعليه فإن الدور السياسي الذي تلعبه هذه الأخيرة من خلال اعتبارها مدرسة لممارسة الديمقراطية المحلية، ومشاركة السكان في اتخاذ القرار المحلي، والانفتاح على المجتمع المحلي، يجسد بعمق تحولها للعب دور الشريك والمساهم والمحاور في تلك التفاعلات، وأصبح لها من الوظائف الجديدة ما يؤهلها للبروز كجماعة مقاولة، تسخر كافة الإمكانيات في سبيل استقطاب الاستثمارات بكل أنواعها عبر تسويق مقدراتها الاقتصادية، مستغلة في ذلك كل التقنيات الحديثة للإعلام والتواصل. غير أنه لتحقيق هذه القفزة النوعية، فمن الضروري تغيير طريقة تسيير الشأن العام المحلي وذلك بالانتقال من النظرة التسييرية الضيقة إلى المقاربة المانجيريالية الحديثة والمتجددة. فمفهوم المانجمنت يتجاوز اعتباره تقنية حديثة في إدارة المقاولات بصفة عامة، إلى اعتباره فلسفة جديدة استوحيت من التطورات التقنية والاقتصادية، وضرورة التكييف معها، على اعتبار أن مدلوله لا يتوقف عند مجرد الاهتمام بمجال التسيير، بل يشمل مجموع تقنيات التنظيم والتسيير داخل المنظمة في أفق تدعيم مقومات المردودية، في ظل أبعاد، المطابقة Conformité، الاقتصاد Economie، الفعالية Efficacité، النجاعة Efficience.
بحيث أصبحت الفعالية مطلبا ملحا، لاسيما أن الفرد المتعامل مع الإدارة لم يعد يرغب في أن يكون خاضعا، بل معترفا به كشريك وزبون، يمكن أن يتساءل حول جودة المنتج الذي يجب على الإدارة أن تقترحه لا أن تفرضه، هذا الأمر لن يتأتى إلا بتبني التشاركية كأنجع أسلوب لتحقيق مطلب الجودة على مستوى اتخاذ القرارت. تأسيسا على ما سبق، وجدت الجماعات المحلية نفسها مدعوة لكي تتحمل مسؤولية التأسيس لاقتصاد محلي والعمل على تنشيطه، لا سيما في ظل تزايد دور السوق في هيكلة المجال الاقتصادي، تحت تأثير تحولات في المرجعية والأنساق الاقتصادية العالمية، حيث أضفى هذا الوضع الجديد أعباء ومسؤوليات ومهاما جديدة على عاتق الجماعات المحلية، وتزايد الطلبات الاقتصادية والاجتماعية الموجهة لها.
فالجماعة المحلية المقاولة بما تحيل عليه من استثمار- في الموارد المالية والبشرية-، تحديد الرؤيا الإستراتيجية، إنجاز مخطط استراتيجي، إدخال عنصر الجودة على مستوى الخدمات، تسويق للمقدرات والإمكانات، الاشتغال بالتقنيات الحديثة للتنظيم والتدبير والمراقبة،… الخ، ستمكن من رسم معالم المسار التنموي بشكل صحيح وتدبير عصري وفعال، سيمكن من تجاوز الطريقة التقليدية لإدارة الشأن المحلي على مستوى الجماعات المحلية، التي لم تستطع النهوض بدورها التنموي، كما أن سبب تخلف جماعاتنا المحلية لا يرجع بالدرجة الأولى إلى ضعف الوسائل – المالية والبشرية- وإنما يرجع إلى قصور الرؤيا الإستراتيجية لدى المسير المحلي، ثم إلى الكيفية التي يتم بها تصريف الشأن العام المحلي. وعلى هذا الأساس، تقوم الجماعة المقاولة بانجاز مشاريع تنموية تدر عليها مداخيل مالية، لكن لا تتصرف فيها كتصرف التاجر أو المساهمين في الشركة التجارية، وإنما تعيد استثمارها في مشاريع وأعمال أخرى لا يهتم بها القطاع الخاص لعدم مردوديتها الربحية.
ومن أجل تحديد مفهوم الجماعة المحلية المقاولة، فإننا لا نقصد بذلك أن تصبح الجماعة كالمقاولة بمفهومها الضيق، كون أنها تتوفر على أهداف اجتماعية واقتصادية وثقافية محددة، وترمي إلى تحقيق الصالح العام، في حين أن المقاولة لها هدف وحيد هو تحقيق الربح المادي. وبالتالي فإن مفهوم الجماعة المحلية المقاولة يتجاوز المفهوم الشكلي للجماعة المحلية كجهاز، ليقوم بالتركيز على طبيعة النشاط الذي تقوم هذه الأخيرة بمنظور مقاولاتي، أي ينظر إلى الكيفية التي يتم بها إنجاز المهام الموكلة للجماعات المحلية، من خلال وضع وتحديد الرؤيا لتحقيق أهدافها التنموية في إطار مخطط استراتيجي، بتوظيفها لمجموع الوسائل والآليات الحديثة التي تكفل النجاح للمقاولة في القطاع الخاص، سواء من حيث نظامها الإداري والتنظيمي، أو من حيث مواردها المالية ورأسمالها البشري.
إن ربح رهان الجماعة المحلية المقاولة، يتطلب الاعتماد على مجموعة من الشروط الموضوعية – توفير وتدبير الوسائل المالية والبشرية- والذاتية، وذلك من خلال الرفع من مستوى المنتخب المحلي، لأن الجماعة المحلية المقاولة تحتاج إلى رئيس ومنتخب بمواصفات المقاول الناجح، الذي يسهر على تسيير جماعته بطرق حديثة وراقية في إطار المقاربة التشاركية، ومبرر ذلك كون الجماعة المحلية أصبحت تتعامل في إطار شراكات وتعاقدات مع مقاولات وشركات وطنية وعالمية…كذلك تعتبر المحددات القانونية والبشرية والمادية، العنصر الأساسي للتسيير المقاولاتي، وإضافة إلى ذلك، فإن الجماعة المحلية المقاولة تحتاج إلى مقومات نوعية جديدة ترسخ مؤشرات الحوكمة(الشفافية، المشاركة، التواصل، الإدارة الالكترونية وتبسيط الإجراءات الإدارية،..) كما تشكل الدعامات ذات الطبيعة الرقابية من بين الإجراءات المهمة التي تساعد في تحقيق تسيير مقاولاتي فعال، حيث تسمح بتتبع وتقييم العمل المحلي من حيث معرفة مظاهر القوة والضعف التي تمكن من تحديد مستوى أداء الجماعة المحلية المقاولة.
رابط دائم: https://mosta.cc/0doqu