حاوره : براهمي محمد الصالح
الفلاحة في الجزائر هي من اكثر الورشات الاقتصادية التي تم فتحها منذ قدوم الرئيس تبون أهمية، نظرا لكما تحوزه الجزائر من إمكانيات هائلة في المجال، وفي مختلف شعبه.
ومن بين أبرز الشعب التي ركز عليها الرئيس تبون، ضمن استراتيجيته الاقتصادية لتنويع موارد الاقتصاد الوطني، شعبة الحليب، نظرا لأهميتها الاقتصادية وكذلك الاجتماعية نظرا لكون مادة الحليب من أكثر المواد الغذائية التي يستهلكها الجزائريون.
ومن أجل الإستفاضة أكثر في هذا الموضوع، أجرى الأستاذ في الزراعة و الاقتصاد الزراعي بجامعة تولوزالفرنسية université de Toulouse III، لطفي غرناؤوط، حوارا مع جريدة “المستثمر”، تم خلاله العودة لواقع الفلاحة وشعبة الحليب في الجزائر، وآفاق تطويرها إعتمادا على الخبرات والنماذج الدولية الناجحة في هذا المجال، خاصة في الدول الصديقة والشقيقة.
– بداية لنتحدث عن آفاق الفلاحة في الجزائر، على ضوء السياسة الجديدة للرئيس تبون
يشكل تقليص فاتورة وارادات الغذاء اهتمام ذات أولوية قصوى للسلطات العليا في الجزائر خصوصا و ان الجزائر أصبحت في السنوات الاخيرة تعد من بين أهم الدول المستوردة للمواد الغذائية الاساسية في السوق العالمية خاصة القمح اللين بمعدل يتجاوز 20 مليون طن سنويا و أكثر من 2,7 مليار دولار (كل الحبوب)بسبب إرتفاع الطلب الداخلي لهذه المادة الحيوية و تحت تأثير مباشر لسياسات دعم الاسعار التي تشجع الاستهلاك و رغم الأثر الإيجابي للبرامج التنموية الموجهة لتطوير هذه الشعبة خلال العشرين سنة الاخيرة الا ان الانتاج الوطني من هذه المادة لا يغطي حاليا الا نسبة لا تتجاوز 25% بسبب العديد من العوامل على رأسها القيود المناخية المتزايدة التي تشكل عبئا على الفلاحين و ترهن توسيع المساحات الزراعية المستغلة لإنتاج الحبوب و الاعلاف و التأخر التقني . الى جانب العجز المسجل في العديد من المواد الغذائية الأساسية الاخرى التي تشكل عبئا ماليا على خزينة الدولة خاصة في ظل تزامن التحديات الكبرى على غرار التغيرات المناخية الحادة التي يشهدها العالم و الصراعات الجيوسياسية التي تضاعف متاعب الدول المستوردة للغذاء بسبب حساسية الإنتاج العالمي و تأثره بجملة من العوامل و هذا ما يجعل مسألة تحقيق الأمن الغذائي و تقليص التبعية الغذائية أولوية استراتيجية تتطلب تجنيد كل الوسائل لمواجهتها.
– الرئيس شدد على ضرورة ضمان الأمن الغذائي للجزائريين، ما هي أفضل السبل لتحقيق ذلك؟
رئيس الجمهورية تبون منذ قدومه شدد على ضرورة التخلص تدريجيا من سياسات الاستيراد و عقلنتها بتطوير الإنتاج المحلي للشعب الاستراتيجية كالحبوب و الأعلاف و الحليب و المنتجات الزيتية و هذا ما ترجمته العديد من المجالس الوزارية التي توجت بالعديد من القرارات و الاجراءات الهامة جدا التي تخص وضع منظومة احصائية ضرورية لتنظيم القطاع و الشروع في اصلاحات تمس العقار الفلاحي و إجراءات تحفيزية لمنتجي الحبوب إلى جانب العديدمن الاجراءات التي تدعم الإنتاج الفلاحي و البنية التحتية و كان لهذه التدخلات المباشرة للدولة في قطاع الفلاحة اثر إيجابي على مؤشرات الاداء الاقتصادي خاصة خلال فترة الأزمة الصحية العالمية.
لكن يجب التأكيد انه رغم اهمية تلك القرارات و الجهود المبذولة فان ذلك لا يجعل منها سياسة زراعية متكاملة و واضحة تجيب على المتطلبات الحالية (مناخية، ارتفاع الاستهلاك و تأثرالاسعار عالميا و الاستدامة) و هذا ما تترجمه فاتورة استيراد المواد الغذائية الاساسية المرتفعة و استقرار الإنتاج الوطني من الحبوب مثلا في مستويات ضعيفة رغم بعض النماذج الناجحة التي تبرز الامكانات المتوفرة في الجزائر التي تمكنها من تحقيق نسب عالية من الاكتفاء الغذائي.
في آخر مجلس وزاري أمر الرئيس تبون وزير الفلاحة بإعداد مخطط جديد لتنظيم قطاع الفلاحة ، ما يعني انه يتعين على القائمين على القطاع التفكير بشكل مغاير و منهجي حول توجهات القطاع الفلاحي و استراتيجيات تطويره بشكل يأخذ بعين الاعتبار التحديات الكبرى على غرار ارتفاع اسعار المواد الاستراتيجية في الاسواق العالمية و المدخلات و خاصة شح الموارد المائية الذي يعتبر من المؤشرات الكبرى للتغيرات المناخية التي تشهدها بشكل حاد منطقة شمال افريقيا .
و بشكل مختصر ، الفلاحة الجزائرية تحتاج لإعادة النظر في السياسة الفلاحية بشكل شامل من المنبع الى المصب بالاعتماد اولا على المعطيات الإحصائية لاستغلال بشكل امثل الموارد الطبيعية المحلية و رفع الانتاجية في الهكتار و تجاوز القيود الطبيعية التي تميز الانتاج و تحديث القطاع و ايضا محور دمج الصناعات التحويلية الغذائية كمحرك للرفع من الانتاجية و حماية المنتوج الوطني من خلال تشجيع الاستثمار في الإنتاج و وضع إطار قانوني لتشجيع المرافقة التقنية الدقيقة للفلاحين و توسيعها الى جانب تعبئة كل الوسائل العلمية و التقنية الحديثة بالتنسيق مع القطاعات الاخرى .
– من أكثر الشعب الفلاحية التي لطالما أثارت الكثير من الحبر شعبة الحليب، ما رأيكم في واقع هذه الشعبة بالجزائر
تبعية الجزائر للخارج في مادة الحليب و مشتقاته بنوعيه الموجه للاستهلاك العام او حليب الاطفال تترجم بفاتورة استيراد عالية جدا (حوالي 1,4 مليار دولار) لا تستطيع الدولة مواجهتها الا من خلال العائدات النفطية و تأتي واردات الحليب في المرتبة الثانية بعد الحبوب بمختلف أنواعها حيث تستورد الجزائر 40% من احتياجاتها المحلية و تحتل المرتبة الثانية بعد الصين.
هذه الأرقام توضح مستوى الاداء لهذه الشعبة و تبرز الخلل في العديد من المحاور التي تميز القطاع و غياب تكامل بين الإنتاج المحلي و قطاع التحويل الذي تطور في السنوات الاخيرة لكنه يبقى ينشط بمعدل شبه تام عن المنتجين المحليين بسبب اعتماده على البودرة المستوردة بنسبة ادماج عالية نظرا لتفاوت الاسعار ما يرهن الى جانب العديد من العوامل الاخرى تطوير هذه الشعبة و تشجيع الانتاج الوطني لمادة الحليب.
يجب الإشارة الى ان شعبة انتاج الحليب في الجزائر تعتبر من الشعب الاكثر تعقيدا و تشابكا نظرا لكثرة المتدخلين بسبب ارتباطه من المصب الي المنبع بالعديد من التخصصات (الانتاج النباتي، الحيواني و قطاع التحويل و التسويق) الى جانب احد المؤثرات الاساسية لقطاع الحليب في الجزائر و هي السياسات الاجتماعية العمومية الداعمة للاستهلاك المفرط و بالتالي الاعتماد على استيراد البودرة و تسويق حليب بسعر منخفض جدا ما يزيد في نسبة الطلب و يهمش عملية الجمع و رفع نسب إدماج المنتوج المحلي الذي يعتبر مكلفا بالنظر لارتباطه بالعديد من العوامل على رأسها ارتفاع تكاليف التغذية ما يرهن رفع حجم القطيع الوطني من الأبقار ذات الانتاجية العالية و التأخر في امتصاص الاراضي البور لإدماجها في الدورات الزراعية لإنتاج مختلف الأعلاف الخضراء و المركزة و التي تستورد حاليا من الخارج يضاف الى ذلك التأخر التقني المسجل في هذه الشعبة سواء على مستوى التحسين الجيني للسلالات المنتجة و تكييفها في الجزائر و التلقيح الاصطناعي او على مستوى تقنيات التغذية البديلة و المستدامة .
في آخر مجلس وزراء، أمر الرئيس تبون بضرورة الاهتمام أكثر بصناعة وتوفير مادة الحليب، كيف برأيكم يمكن تطبيق توجيهات رئيس الجمهورية على أرض الميدان؟
قرارات رئيس الجمهورية بخصوص تطوير شعبة الحليب جاءت متزامنة مع تشديده في نفس المجلس الوزاري على توسيع الأراضي الفلاحية المخصصة لإنتاج الاعلاف كأهم عامل لتطوير الشعبة و تعقيل تكاليف الإنتاج المرتفعة و هذا يوضح التوجه الجديد لتطوير الشعبة بتبني مخطط جديد ينظم الشعبة و يضمن التكامل بين الانتاج النباتي و الحيواني و تطوير شبكة الجمع التي تبقى تقليدية و غير مهيكلة و ايضا قطاع التحويل بإلزامه برفع نسب الإدماج المحلي و أخيرا التسويق، كلها نقاط تشجع المستثمرين على الانخراط بشكل افضل في هذه الشعبة الحيوية و التخلي عن القرارات المنعزلة و الإجراءات الترقيعية التي انتهت بالفشل و تبني سياسة السهولة و الاستيراد. ما يجعل التوجه نحو تحقيق التوافق و الوضوح بين السياسات الاجتماعية الداعمة للاستهلاك من جهة و السياسات الداعمة لتشجيع الإنتاج المحلي هام جدا و التي كما ذكرت ترهن بنسبة كبيرة الاستثمارات في هذه الشعبة و رفع الإنتاج .
ان إعادة النظر في تنظيم المتدخلين في الشعبة هام جدا من حيث توجيه التحفيزات نحو المربين و المجمعين و المحولين لكن هذه السياسات لن تكون ناجعة إذا لم تقابلها استراتيجية لبعث انتاج الأعلاف الخضراء على نطاق واسع و التي تشكل حوالي 80% من تكاليف إنتاج الحليب في المزارع حيث أنه يجب التأكيد عن عدم جدوى استيراد الأبقار الحلوب من الخارج إذا لم تحل مشكلة إنتاج الاعلاف محليا كأهم خطوة للرفع من الإنتاج و تسبق عمليات التنظيم و التسويق إضافة الى التوجه نحو استعمال تقنيات حديثة في مجال الانتاج الحيواني بتكثيف المرافقة التقنية الميدانية و ربطها بمؤسسات البحث العلمي. و بالتالي نستنتج ان الخلل يكمن في نقص عوامل الإنتاج الأساسية للرفع من الإنتاج و التحكم في تكاليفه قبل ان يكون مشكلا تنظيميا.
– الرئيس تطرق خلال مجلس الوزراء كذلك إلى حليب الأطفال، ما آفاق تطوير صناعته بالجزائر؟
مجال حليب الرضع مثل الحليب العادي يشكل عبئا ماليا مضاعفا على الخزينة حيث ان هذا النوع من الحليب و رغم انه من نفس مصدر صنع بودرة الحليب المستوردة (حليب البقر) الا انه جد مكلف نظرا لحساسية المنتوج صحيا و بالتالي مروره بالعديد من المراحل لتصنيعه انطلاقا من تحليلات دقيقة لحليب البقر المجمع و نزع الدهون و إعادة صياغة تركيبته من حيث المكونات (البروتينات ، الكربوهيدرات و الدهون) بحيث يتم تقريب نسب مكوناته من حليب الأم إلى جانب مراحل اخرى دقيقة قبل تسويقه تحت مراقبة صحية دقيقة و هذا ما يجعلني اشير نقطتين و هي نقص المادة الأولية (حليب الأبقار) الضرورية لهذه الصناعة في الجزائر للأسباب التي ذكرتها و أيضا حاجة الجزائر الكبيرة لاستيراد و نقل التكنولوجيات الحديثة من الخارج في الصناعات الغذائية خاصة من هذا النوع الحساس و هذا ما تطرق له السيد الرئيس بحديثه عن البحث عن شراكات اجنبية في هذا المجال و هذا التغير في التوجهات الاقتصادية نحو البحث عن شراكات منتجة من هذا النوع يعبر عن استراتيجية اقتصادية منفتحة للخروج من التبعية في العديد من المجالات ، يبقى شرط توفير المادة الأولية لإنتاج حليب الرضع أساسي لتفعيل شراكات من هذا النوع فالشريك الأجنبي ينقل التكنلوجيا و المعرفة (savoir faire) لكن ليس بإمكانه جلب المواد الأولية لكن من بين الحلول المؤقتة هو توجيه الكميات المنتجة من حليب الأبقار المحلية الي هذا النوع من التحويل(حليب الرضع) اذا اخذنا ذلك من منطق تكاليف الإنتاج و بالموازاة مع ذلك الانطلاق في تجسيد برنامج خاص برفع المساحات المخصصة لإنتاج الاعلاف الخضراء و ادخالها في الدورات الزراعية و امتصاص البور و ايضا تحديد احواض انتاجية مخصصة بالأخذ بعين الاعتبار كل العوامل الطبيعية و المناخية و تخصيص المكننة الخاصة و تشجيع المستثمرين في هذا المجال.
– الجزائر تبنت توجها إقتصاديا مبنيا على الشراكات مع الدول الصديقة والشقيقة، من هي الدولة التي يمكن للجزائر الاستفادة من تجربتها في مجال الحليب العادي وكذلك حليب الأطفال؟
تعتبر فرنسا الدولة الرائدة عالميا في هذا المجال على غرار الصناعات الغذائية الاخرى و توجد بها العديد من المجموعات الاقتصادية الصناعية الرائدة التي لا تزال تسوق منتجاتها في الجزائر مثل مجمع “لاكتاليس” الرائد عالميا في صناعة تغذية الاطفال، دانون ، “غيجيلي” و ايضا سويسرا و هولندا بشكل أقل يعني الدول التي بها انتاج مرتفع من الاعلاف و خاصة رائدة في مجال تحسين السلالات و الانتاج الحيواني و الجزائر بحكم علاقاتها الديبلوماسية يمكنها العمل على الترويج للمزايا التي جاءت في قانون الاستثمار الجديد المحفز للاستثمار و تفعيل شراكات ناجعة خاصة في نقل المعارف و التكنولوجيا .
رابط دائم: https://mosta.cc/cqlti