في ظل التغيرات المتسارعة التي يعرفها الاقتصاد العالمي، لم يعد ممكناً تجاهل الدور الحيوي الذي تلعبه المؤسسات الناشئة في دفع عجلة الابتكار، خلق فرص العمل، وتحفيز التنمية المحلية. ومع ذلك، فإن هذه المؤسسات الصغيرة، رغم ما تملكه من طموح ومرونة، تجد نفسها في مواجهة تحديات جسيمة تتعلق بالتمويل، نقص الخبرة، وغياب بنية تحتية داعمة. وهنا يبرز دور المؤسسات الاقتصادية الكبرى، التي بإمكانها بفضل مواردها وخبرتها أن تلعب دورًا فاعلًا في احتضان وتوجيه هذه المشاريع الصاعدة , يرى عدد من الخبراء أن التعاون بين هذه الفئات الاقتصادية المختلفة ليس فقط ضروريًا، بل يمكن أن يشكل أحد أعمدة التنمية المستدامة في الدول النامية، ومنها الجزائر
المؤسسات الكبرى كرافعة للمؤسسات الناشئة
أكد الخبير الاقتصادي جلول سلامة في هذا الصدد في تصريح خاص” للمستثمر” أن العلاقة بين المؤسسات الكبرى وتلك الناشئة أو الصغيرة يمكن تشبيهها بالعلاقة التي تجمع بين فيل ضخم وفيلة فتية صغيرة تعيش في ظل حمايته. هذا التشبيه المستوحى من دروس الاقتصاد المؤسساتي، يعكس بوضوح طبيعة العلاقة الحاضنة التي من المفترض أن تنشأ بين الشركات الكبرى والمؤسسات الناشئة، خصوصاً في المراحل الأولى من حياة هذه الأخيرة
فالمؤسسات الصغيرة والناشئة غالباً ما تعاني عند تأسيسها من نقص حاد في الموارد المالية والمادية، ما يصعب عليها الدخول بقوة إلى السوق أو حتى تغطية التكاليف التشغيلية الأساسية.
وهنا يظهر دور المؤسسات الكبرى، التي من المفترض أن تقوم باحتضان هذه الشركات الفتية، فتتكفل بجزء كبير من مصاريفها في المرحلة الأولى، مثل الأجور، تكاليف الإدارة، كراء المعدات، وحتى توفير بيئة عمل مناسبة تساعد هذه الشركات على الوقوف على أقدامها .
ويضيف سلامة أن هذا النوع من الاحتضان لا يُمنح مجاناً أو بلا مقابل مستقبلي، بل غالباً ما يُؤسس على علاقة استراتيجية طويلة الأمد، حيث تتحول المؤسسة الناشئة مع الوقت إلى فرع من فروع المؤسسة الأم، أو تصبح مقاولاً من الباطن يقوم بتوفير بعض المكونات أو الخدمات التي تدخل ضمن سلسلة الإنتاج للمؤسسة الكبرى. وفي أحيان أخرى، تختار الشركة الكبرى مؤسسة ناشئة ذات قدرة على الابتكار، لتكليفها بتطوير منتج جديد يساعدها على التموقع الاستباقي في السوق .
لكن، ورغم أهمية هذا النوع من التعاون، يرى سلامة أن العلاقات التشاركية بين القطاع العام والخاص لا تزال دون المستوى المطلوب، والسبب الرئيسي في ذلك يعود إلى التعقيدات البيروقراطية والنصوص القانونية التي تُنظّم مجال الصفقات العمومية، والتي تخلق حالة من التردد والخوف لدى المؤسسات الكبرى من الانخراط الفعلي في شراكات مماثلة.
ورغم وجود نصوص قانونية تهدف إلى تحفيز المؤسسات الكبرى سواء كانت عمومية أو خاصة على احتضان الشركات الناشئة، خاصة تلك التي تنشط في ميادين البحث والتطوير، إلا أن هذه المبادرات ما تزال حديثة العهد ولا توجد لغاية الآن دراسات ميدانية كافية توضح مدى فعاليتها أو نجاحها الفعلي .
أما الخبير الاقتصادي نوفل جمال الدين، فيؤكد من جهته أن المؤسسات الكبرى، على الرغم من قوتها، قد تصل في بعض الأحيان إلى مستوى من التعقيد يجعلها غير قادرة على التعامل مع بعض الإشكالات أو على تطوير حلول جديدة بكفاءة. في هذه الحالة، تلجأ هذه المؤسسات إلى التعاقد مع مؤسسات ناشئة من خلال آليات “المنوالة”، أي تفويض بعض المهام أو المشاريع لهذه الشركات، وتوفير فرص استثمارية لها لتشاركها في إدارة السوق، خصوصاً في الجوانب التي تتطلب مرونة وابتكاراً.
التمويل: العقبة الأكبر أمام المؤسسات الناشئة
ويُشير جمال الدين إلى أن المؤسسات الناشئة، رغم قدرتها على تقديم حلول إبداعية ومرونة عالية، تواجه عقبات كبيرة، على رأسها صعوبة الحصول على التمويل اللازم، وهو ما يعيق نموّها وتوسعها. ومن هذا المنطلق، فإن دعم هذه المؤسسات من طرف الشركات الكبرى، عبر منحها امتيازات أو إدخالها في شراكات تمنحها حصصاً سوقية واضحة، يمكن أن يشكل دفعة قوية نحو نموها واستقرارها.
ويؤكد أن المؤسسات الناشئة لا يجب النظر إليها كأعباء أو منافسين، بل كمكاسب استراتيجية للمؤسسات الكبرى، لأنها تُكملها وتُعزز من مرونتها التنافسية، كما تسهم في خلق ديناميكية اقتصادية جديدة
و فيما يخص السياسات الحكومية، يشير جمال الدين إلى أن الدولة الجزائرية بدأت في تبني بعض السياسات الداعمة، منها تخفيف العبء الضريبي على المؤسسات الكبرى بشرط إعادة استثمار جزء من أرباحها في البحث والتطوير أو في دعم مخابر ومراكز بحث خاصة بالمؤسسات الناشئة. وهذه الأخيرة، في إطار هذا الدعم، تستفيد من إعفاءات ضريبية تساعدها على البقاء والنمو
ومن خلال هذا النوع من التعاون، يمكن تحقيق العديد من الأهداف الوطنية، مثل خلق مناصب شغل جديدة، والمساهمة في خفض معدلات البطالة، وتنشيط عجلة الاقتصاد، وتقليل الضغط على القطاع المصرفي، من خلال تنويع مصادر التمويل والدعم خارج البنوك.
لكن وعلى الرغم من أهمية هذه المبادرات، فإن غياب برامج واضحة ومهيكلة لتأطير التعاون بين المؤسسات الكبرى والناشئة لا يزال يمثل عقبة حقيقية، ما يستدعي من الجهات المختصة تعزيز الإطار القانوني والتنظيمي بما يسمح بتفعيل هذه الشراكات على أرض الواقع
عبيدات:” الشراكة ليست خياراً بل ضرورة تنموية”
و في نفس السياق أصر رئيس المركز الجزائري للدراسات الاقتصادية والبحث في قضايا التنمية المحلية، ياسين عبيدات ، خلال تصريحه” للمستثمر ” على أن الدعم لا يجب أن يقتصر على الجوانب المالية، بل يجب أن يشمل أيضًا المرافقة التقنية والإدارية والقانونية والتسويقية، بل وحتى النفسية. “في كثير من الأحيان، تكون المرافقة أهم من التمويل، خصوصًا في مراحل التأسيس الأولى”، يوضح عبيدات.
من الأمثلة التي يطرحها: توفير البرامج والمخابر، المرافقة القانونية لتأسيس الشركة، إعداد العقود، حماية الملكية الفكرية، ووضع استراتيجيات التسويق والتوسع، بالإضافة إلى ربط المؤسسة الناشئة بشبكات المستثمرين والعملاء .
يذهب عبيدات أبعد في التحليل ، مؤكدًا أن المؤسسات الناشئة في الجزائر تواجه عراقيل كبيرة، أبرزها نقص التمويل، قلة التأطير، وصعوبة الوصول إلى السوق. في المقابل، تملك المؤسسات الاقتصادية الكبرى الموارد والخبرة، ما يجعلها قادرة على لعب دور محوري في دعم ونمو هذه المشاريع
ويقول عبيدات: “يمكن أن يكون هذا الدعم متعدد الأوجه ويشكل رافعة حقيقية للنمو والابتكار، سواء من حيث التمويل والاستثمار، أو من خلال الاحتضان والتوجيه، والاستفادة من الخبرات الإدارية والتسويقية وفتح الأسواق ومنافذ التوزيع .”
ويضيف أن هناك العديد من البرامج التي أُطلقت في هذا الإطار مثل البرنامج الوطني للمؤسسات الناشئة، الحاضنات الجامعية، ومبادرات بعض الشركات الكبرى، إلا أن هذه الجهود لا تزال بعيدة عن تحقيق النتائج المأمولة بسبب غياب التنسيق والشراكة الحقيقية مع القطاع الخاص
المؤسسات الكبرى: بين عقلية المنافسة وثقافة الشراكة
ورغم كل ما قيل عن مزايا هذا التعاون، يلاحظ عبيدات أن العديد من المؤسسات الكبرى لا تزال تنظر إلى الشركات الناشئة كمنافس محتمل أو كمصدر تهديد، بدل اعتبارها فرصة استثمار وتعاون. ويفسر ذلك بنقص الوعي، وضعف التحفيزات، وغياب ثقافة الشراكة الحقيقية في بيئة الأعمال الجزائرية.
وللتغلب على ذلك، يقترح عبيدات منح امتيازات جبائية للشركات الكبرى التي تنخرط في دعم المؤسسات الناشئة، وإنشاء منصة وطنية تجمع الطرفين، بل وحتى تخصيص جوائز لأفضل شراكة.
في الأخير يمكن القول أن الخبراء إتفقا على أن المستقبل الاقتصادي للجزائر يحتاج إلى رؤية جديدة تنبني على الاندماج بين الطاقات الصاعدة والمؤسسات الراسخة فدعم المؤسسات الناشئة ليس رفاهية، بل ضرورة وطنية، تفتح الباب لاقتصاد أكثر مرونة، قدرة على الابتكار، وخلق فرص شغل مستدامة .
رابط دائم: https://mosta.cc/jr28v