يعتبر التحكيم الدولي مجالا قانونيا حساسا وهاما، لإرتباطه بالفصل بين النزاعات الممكن نشوبها بين شركة وطنية وأخرى أجنبية، وعندما نتحدث عن التحكيم الدولي في منطقة أفريقيا وأغلب دول العالم، فإننا نتحدث عن خسائر ضخمة تلحق بهذه الدول، وظاهرة خسارة القضايا التي تصل إلى ذلك المستوى تشمل أغلب الدول، بما فيها الجزائر في وقت ما.
فيما يلي نعود مع الأستاذ المحامي حسان براهمي إلى واقع التحكيم الدولي في فترة سابقة، عرقت ب”فترة العصابة”، والنزيف الذي كانت الخزينة العمومية تعاني منه وقتها.
بداية لما نسمع عن رقم فلكي يتحدث عن 3.5 مليار دولار خسرتها الجزائر خلال عشر سنوات جراء قضايا التحكيم الدولي ونزاعات مع اجانب اشتغلوا معه هنا في الجزائر، كيف يمكن ان نفسر هذا الرقم الهائل في قضايا كان يفترض انه تكون منظور اليها ومتحكم فيها مسبقا ؟
– اولا الإشكالية المتعلقة بخسارة الجزائر امام المحاكم التحكيم الدولية هي نابعة من مشكل اكبر منه هو اشكالية ابرام الصفقات في حد ذاتها لماذا الدولة كانت في الفترة السابقة تبرم صفقات فاشلة منذ البداية، فالدولة تخسر داخليا عن طريق خسارة ما يعتبر اموال فساد التي تذهب اختلاسات والى غير ذلك، إضافة الى إطالة فترة انجاز المشاريع ومراجعة كلفتها مرات عديدة.
وتخسر من جهة أخرى فيما بعد على المستوى الخارجي من خلال دفع غرامات وتعويضات الى شركات اجنبية. هذا هو السؤال الأهم قبل ما نطرح اشكالية التحكيم الدولي التجاري والجزائر.
و بالنسبة لنا هذا النشاط يعد نادر من نوادر القانون في بلادنا حتى على مستوى المحامين حتى على مستوى كليات الحقوق او المعاهد الى غير ذلك ، لأن الجزائر يمكن ان نقول أنها كانت معادية للتحكيم الدولي التجاري بسبب ما كان يعرف بالسيادة القضائية المفرطة في السابق وهي الآن حديثة عهد بالنظام القضائي العالمي المعمول به حاليا، رغم عراقته ووجوده ربما حتى قبل القضاء العادي في البلدان المتقدمة.
ماذا نعني بالتحكيم الدولي لان البعض يقول بانه نزاع نشب بين شريك اجنبي وجزائري يفترض ان يعالج على مستوى القانون الجزائري وفي المحاكم الجزائرية ، وهل اللجوء الى التحكيم الدولي يعكس عدم ثقة الاجانب في المحاكم او في العدالة الجزائرية ام انه أمر طبيعي ومتداول في كل دول العالم ؟
العدالة تنقسم الى قسمين عدالة رسمية يعني قضاء رسمي و المتمثل في محاكم ، قضاة و مجالس قضائية و محكمة عليا ، وعدالة خاصة يعني بالمعنى الحديث يسمى “التحكيم الدولي التجاري” ، وهذه العدالة الخاصة هي ان الاطراف المتعاقدين في عقد ما خاصة بين التجار انهم يتفقون في حالة وجود اخلال في بند من بنود هذا العقد لا يتم اللجوء الى القاضي العادي وانما يتم اللجوء الى المُحَكِّم هذا ربما يكون مؤسسة تحكيم أو يكون شخص طبيعي أو يكون مؤسسة اجنبية، وفي الغالب الواقع العملي في قضايا التحكيم يطرح إشكاليتين الأولى هي أن هؤلاء المحكمين الذين يقومون بدور القضاء ويحلوا محل القاضي الوطني هم في الغالب قضاة اجانب على مستوى دول اجنبية معروفة مثل التجارة الدولية في باريس أو في واشنطن أو في جنيف ، هذه الدول عندما تطبق للحكم في هذه القضية وتفصل فيها لن تحكم بالقانون الجزائري ، وإنما ستطبق القانون الدولة الموجودة فيها القانون السويسري ، الالماني و الفرنسي الى غير ذلك وبالتالي الطرف الخاسر في القضية هو الطرف الجزائري لانه يتعاقد داخل الجزائر بالقانون الجزائري ولكن عندما يتحاكم او يصل النزاع الى القضاء سيُحاسب بقانون اجنبي .
الإشكالية الثانية هي أن التحكيم التجاري الدولي يعد كضمانة وكحق من حقوق الإستثمار الممنوحة لأي مستثمر اجنبي حتى يتمكن من أن يدخل بأمواله وتكنولوجيته إلى البلاد ، وهو اول شرط في أي عقد استثمار أنه يجب ان تخضع النزاعات المستقبلية المحتملة الى قضاء محايد على مستوى دولي معترف به عالميا ؛ وللأسف الشديد لم نصل بعد إلى المستوى الذي يمكن إعتبار عدالتنا موثوقة فيها إستثماريا ، لهذا المستثمر الاجنبي باستمرار اول شيء يؤكد عليه هو الخضوع للتحكيم في تسوية النزاعات، وهذا الشرط يتحقق بالعودة للأصول والقوانين واتفاقيات دولية التي تنظم التحكيم الدولي التي وقعت الجزائر وصادقت عليها مثل اتفاقية الأمم المتحدة للاعتراف وتنفيذ قرارات التحكيم الدولي أو ما يعرف باتفاقية نيويورك الصادرة في 1958 والاتفاقية الخاصة بتسوية الخلافات المتصلة بالاستثمارات بين الدول ورعايا بلدان أخرى الموقعة بواشنطن في 1965، والاتفاقية الجزائرية الفرنسية الصادرة بتاريخ 27 مارس 1983، والتي تنص على حق المتعاملين الاقتصاديين من البلدين في اللجوء إلى التحكيم. تطبيقا للمبدأ الدستوري “سمو الإتفاقيات الدولية المصادق عليها ضمن الشروط المنصوص عليها في الدستور على القوانين الوطنية”.
وشرط الخضوع للتحكيم الدولي لا تكون صياغته في مادة او مادتين فقط ، بل يكون في عقد كامل ملحق بكثير من المواد حتى يتم ضبطه بالضبط، لكن في بلادنا سابقا للأسف الشديد في اغلب الصفقات العمومية او الخاصة نجد انه بند صغير يتم في اخر العقد دون اي توضيحات، فيما بعد الشريك الأجنبي يستغل هاد الهفوات لي وقع فيها الشريك الوطني للمؤسسة الوطنية الخاصة والعامة ليربح قضيته.
تحدثت عن نقطة جوهرية هي أن الجزائري عادة ما يغفل التعاطي مع مثل هكذا بند ، لكن لما نرى انه نفس الشركات في اكثر من محطة تتعرض لنفس العملية وتصل إلى بالتحكيم الدولي، هل تعتقد ان هذه المؤسسات دائما تكرر نفس الخطأ ام ان هناك امر يقف خلف كل هذه المشاكل و النزاعات ؟.
– هناك العديد من الاسباب ، اسباب اقتصادية واسباب قانونية وحتى هناك اسباب خفية ، و السبب الأساسي الذي يعتبر هو المؤثر الكبير على التحكيم الدولي التجاري في بلادنا هو أن الجزائر بعد الاستقلال مباشرة تبنت نهج الإقتصاد الموجه ، النهج الإشتراكي الذي يركز على حماية السيادة الوطنية واول قرار اتخذوه منذ عام 1963 هو انه لا سيادة للقضاء الا للقضاء الجزائري، يعني اي صفقة تبرم في الجزائر يجب ان يختص بها القاضي الوطني الجزائري احتراما لمبدأ السيادة ، وهذا المبدأ يعني حرم تماما التحكيم الدولي التجاري الا باستثناءات قليلة، الى ان دخلت الجزائر في الازمة الاقتصادية المعروفة بعد عام 1986 مما اضطرها الى اللجوء الى رأس مال اجنبي واستثمارات اجنبية، حتمت عليها ان تخفف من القيود السيادية على القضاء الوطني وقبلت بصفة رسمية في عام 1993 ان يكون للتحكيم باب مفتوح ، ليس للخواص فقط وانما حتى في الصفقات العمومية وقبل ذلك صادقت على الاتفاقية العالمية لتحكيم الدولي التجاري لعام 1958، وهذا بمرسوم رئاسي صادر عام 1988 مما يعني فتح الباب على مصراعيه للتحكيم الدولي التجاري، هنا الشركات الوطنية اصبحت في حالة ابرام لعقود إذعان مع الشريك الاجنبي بمجرد ما يدخل لأي صفقة يقحم التحكيم التجاري الدولي فيها. وبرأيي هذا هو السبب رقم واحد لما نعرفه من نكسات في التحكيم الدولي، فجهلنا نابع من الغياب على هذا القطاع لثلاثين أو لأربعين سنة كاملة.
منذ انطلاق المشاريع الكبرى لاحظنا دخول العديد من الشركاء الاجانب في في عملية بناء المشاريع التي اطلقتها الخزينة الدولة بمبالغ ضخمة في نهاية المطاف نحن نتحدث اقل شيء عن عشر سنوات تجربة مبرر قلة الخبرة وعدم مواءمة الشركات الوطنية
– لو لاحظنا التسلسل الهرمي الزمني للقضايا التي خسرتها الدولة واغلبها يعني خاسرة على مستوى التحكيم الدولي اسندت لمحامين اجانب مقيمين في فرنسا وفي سويسرا وفي امريكا الى غير ذلك، وهذا ربما بسبب اننا في الجزائر لا نُكون مختصين في التحكيم الدولي، ونلجأ مباشرة للأجانب. فهل الاجنبي عنده الولاء الكامل والوطنية الكافية إمن أجل أن يحمي مصالح الجزائر، بالطبع لا، لأنه اكيد ستكون له ولاءات اخرى هذا احتمال أول.
أما الإحتمال الثاني انه حتى من الناحية الإقتصادية فإن المبلغ الضخم الذي استثمرته الدولة في العشرين سنة الماضية ربما يتجاوز حوالي الف مليار دولار يعني من هذه الألف مليار دولار ، اكيد ستكون كتلة نقدية بين 200 أو 300 مليار محل منازعات وامام العدالة، وبالتالي هذه المنازعات سيكون فيها تحكيم. بما يعني يكون رقم المنازعات يعني معقول وبسيط بالمقارنة بحجم الاستثمارات. لكن لما نرى الاحصائيات نجدها تطرح اشكاليات، مثل حتى الى غاية عام 2016 المختصين في التحكيم التجاري الدولي صرحوا ان الجزائر من اصل اربعة وثلاثين قضية تحكيم تجاري دولي ربحت اربعة قضايا فقط يعني تسعين بالمائة غير رابحة.
هل تعتقد انه سبب فشل الجزائر في التعاطي مع ملفات التحكيم الدولي وقتها كان من منطلق ان هذه العقود عولجت بطريقة خاطئة، ام ان الامر يتعلق بالإهمال و اللامبالاة أو بالتقصير بأي شكل من الاشكال؟
– حسب رأيي الشخصي هناك سببين واضحين اولا الخلل في العقود والثاني هو عدم اللجوء للحلول الودية قبل النزاع.
مثلا الخلل في العقود كيف يتم ذلك؟ عندما الذهاب لتحرير عقد ، العقد يجب ان يعرض على لجنة قانونية من المختصين وانه يدرس بند ببند وربما يستغرق الأمر شهرين أو ثلاثة اشهر مدة طويلة للحصول على عقد جيد ببنود جيدة ، ولكن للأسف الشديد في واقع مؤسساتنا الوطنية، المشكل يقع على من يحرر العقود هم رؤساء المصالح التقنية فقط ما دون استشارة اي لجنة قانونية. حتى انه تجد تقني رئيس مصلحة او اداري هو الذي حرر العقد وهو غير مختص ، لماذا لا يشرك المحامين الجزائريين المتخصصين في هذا المجال في تحرير العقود؟.
و ايضا تجد ان الشريك الاجنبي عندما يدخل الجزائر ،يثق فيه الشريك الوطني ثقة عمياء، لدرجة أن الشريك الأجنبي هو من يحرر العقد بالبنود كاملة والشريك الجزائري يوقع فقط، وهذاللأسف واقع الحال في اغلب القضايا الخاسرة ، وهذه الاشكالية لماذا لا نخلق عقود تخصنا، يعني حتى في المعاملات الخاصة الشركات الجزائرية لا تفضل العقود الجيدة، رغم أنه من الثابت أن اتفاق سيئ أحسن من دعوى قضائية جيدة وهذا من الاشكاليات التي يعاني منها الاقتصاد الوطني .
هناك من يقول ان العكس أي عادة ما يتعامل الشريك العمومي او صاحب المشروع الجزائري الوطني مع الشريك الاجنبي بمنطق فوقي على اساس انه الشريك الجزائري هو المسيطر الذي يتحكم في حين انه الشركة الاجنبي مجرد تابع ولا يعطيه حتى امتياز الذي يتمتع به اي شريك في شركة .
– نحن في الجزائر لدينا مثل قانوني يقول أنه عند ابرام العقود الطرف المتعاقد مع الإدارة الجزائرية دائما طرف مذعن في ابجدية القانون الجزائري وهذا ما درسناه في كلية الحقوق هو ان الإدارة دائما هي الأمير الذي يفعل ما يشاء ، وهذه النظرية أي “فعل الامير” اكل عليها الدهر وشرب، لا تصلح في الاتفاقيات الدولية، ربما تصلح داخل الوطن لكن خارجه مع الشريك الاجنبي، لا يمكن تطبيقها، هم لديهم نفس الندية كمتعاقدين و”العقد شريعة المتعاقدين”، و هذا هو المبدأ الوحيد المطبق على الاتفاقيات الدولية، لهذا الشركة الوطنية عندما تتعاقد مع اجنبي لايجب أن تنزل الى مستوى شريك له نفس الحقوق و له نفس الواجبات ، مثلا مؤسسة وطنية تتعاقد مع شريك وطني، عند دفع الأموال يكتب في العقد في خلال 45 يوم إلى 60 يوم من الإنجاز تحصل على الاموال، لكن في واقع الحال ربما 60 يوم قد تتحول و تمدد إلى عامين أو ثلاث سنوات.
لكن هذا الأمر لو طبق مع الشريك الأجنبي و يحدث تأخر في التسديد ، الشريك الأجنبي يلجأ مباشرة إلى المحاكم الدولية التي تحكم لصالحه بقرارات فيها غرامات تأخير ربما تصل إلى عشرة بالمائة شهريا وسنويا الى غير ذلك وما يفسر انه مبالغ ضخمة احيانا صفقات مبلغ الغرامة الذي دفعته الدولة أكثر من قيمة المشروع في حد ذاته .
لو معالج مثلا قضية التحكيم الدولي ضد الجزائر في قرار محكمة جنيف التحكيمية ضد شركة الخطوط الجوية الجزائرية الذي كلفها حوالي 40 مليار سنتيم نجد انه خطأ اداري ، و أن الخطأ لم يكن في شركة الخطوط الجوية الجزائرية وانما في الشريك الاجنبي الكندي الذي كلفته بإنجاز مقر اجتماعي لها ولكن لما بدأ الإنجاز تبين انه لم ينجز مقر اجتماعي و إنما ينجز فندق ، هنا ربما لو كانت الإدارة متفطنة في ذاك الوقت كانت ستوجه له اعذارات قبل فسخ العقد، والشريك الكندي هو من كان سيدفع الغرامة مادام هو من اخلَّ بالتزاماته التعاقدية.
رابط دائم: https://mosta.cc/reg13